Sharing is caring!
العربية لغة إنسانية ناطقة، تستخدم جهاز النطق الحي أحسن استخدام، وهي كذلك لغة ثرية بمفرداتها الفصيحة الصريحة التي تحمل بداخلها موسيقى خفية.
ويؤكد المفكر العربي البارز عباس محمود العقاد (1889-1964) في كتابه الذي اخترنا تصفحه اليوم “اللغة الشاعرة” أن مفاخرة العرب بلغتهم مبن على أساس علمي وليس من باب التفاخر، لما تمتلكه من معجم لغوي تعجز غيرها من اللغات عن إيجاده، وما تملكه من دقة متناهية في التعبير وغيرها من الميزات الحضارية..
متى بدأت العربية؟
بدأت اللغة العربية تاريخها المعروف بخصائصها المميزة لها اليوم في عصر سابق للدعوة الإسلامية، يرده علماء المقارنة بين اللغات إلى القرن الرابع قبل الهجرة، ويرجع- فيما يشير العقاد بكتابه “اللغة الشاعرة”- إلى عصر قبل ذلك ،لأن المقابلة بينها وبين إخوتها السامية يدل على تطور لا يتم في بضعة أجيال، ولابد له من أصل قديم يضارع أصول التطور في أقدم اللغات، ومنها السنسكريتية وغيرها من اللغات الهندية الجرمانية.
غلاف كتاب اللغة الشاعرة
اللغة الأشد ثراء
العربية كما يشير العقاد لغة شاعرية، مقبولة في السمع،وهي لغة يتلاقى فيها تعبير الحقيقة والمجاز على نحو لا يعهد له نظير في سائر اللغات، كما تنفرد بفن العروض المحكم الذي يمنحها موسيقى خاصة.
ونجد أن الشعر العربي (ديوان العرب وتاريخ أحوالهم) المنظوم من تلك المفردات، منفرد باجتماع القافية والإيقاع والأوزان القياسية في آنٍ واحد.
واللغة العربية ليست الأوفر عددا بين الأبجديات؛ فاللغة الروسية مثلا تبلغ عدة حروفها 35 حرفًا، ولكنها على هذه الزيادة في حروفها لا تبلغ مبلغ اللغة العربية في الوفاء بالمخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية، لأن كثيرا من هذه الحروف الزائدة إنما هو حركات مختلفة لحرف واحد، فهناك حرف ينطق “يا” وحرف ينطق
يو” وحرف “تسي” وحرف “تشي” وهي في حقيقتها تثقيل لحروف الباء والفاء والجيم.
بينما العربية تعد أوفر عددًا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها، وليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية، وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق، أما درجة الضغط على الحرف فيتم تمييزها بثلاثة نقاط مثلا من تحت الباء بدلا من نقطة واحدة، وكذا في الفاء والتي تنطق بما يشبه v في الإنجليزية، أو الجيم التي تصبح معطشة.
ثم تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى كالضاد والظاء والعين والقاف والحاء والطاء، ولهذا سميت بلغة “الضاد” وبعض تلك الحروف يوجد في لغات أخرى ولكن بصورة ملتبسة مترددة لا تضبط بعلامة واحدة.
الزمن عند العرب
عباس العقاد
يظهر ارتقاء اللغة من علامات الزمن في أفعالها، فاللغة التي تدل على الزمن بعلامات مقررة في الفعل أعرق وأكمل من اللغة التي خلت من تلك العلامات.
ويفند العقّاد مقولة بعض المستشرقين من قصور اللغات السامية وبينها العربية من الدلالة الدقيقة على الأزمان، وقد ربطوا منشأ العربية ببيئة الصحراء التي يتراجع فيها الإحساس بالزمن؛ رغم أن العكس هو الصحيح، فلم تشتمل وسائل للتمييز بين الأوقات كما اشتملت عليها اللغة العربية.
وكل لحظة من لحظات النهار والليل قد كان لها شأنها في حياة سكان البادية بين السفر والإقامة والحل والترحال، فمنها ما هو صالح لبدء المسير، وما هو صالح للراحة القصيرة، وما هو صالح للراحة الطويلة، وما ليس يصلح لغير السكينة والاستقرار.
ولهذا وجدت كلمات البكرة والضحى، أو الغدوة والظهيرة والقائلة والعصر والأصيل والمغرب والعشاء والهزيع الأول من الليل، والهزيع الأوسط، والموهن، والسحر، والفجر، والشروق … ويكاد التقسيم على هذا النحو أن ينحصر بالساعات على صعوبة التفرقة بين هذه الأوقات في كثير من اللغات الأخرى بغير الجمل أو التراكيب.
ومن جهة أخرى؛ فالتفرقة بين الأزمنة لها فلسفة في العربية، ويقر عالم من أقدر علماء الأجروميات والمباحث اللسانية، الدكتور «أوتوجسبرسن» Jespersen «إن لنا — على الأصح — أن نحسب أن الزمن ينقسم إلى جزئين: ماض ومستقبل، وبينهما حد الانفصال وقت حاضر كأنه النقطة الهندسية، التي لا طول لها ولا عرض ولا ارتفاع، ولكنها على الدوام منسوبة إلى المستقبل.»
وهذه التفرقة الفلسفية المنطقية ملحوظة في التفرقة الأجرومية بين الحاضر والمستقبل في لغة العرب، فإذا أراد المتكلم أن يذكر المستقبل بشتى معانيه، فهو موجود بمعنى الاستمرار وبمعنى الدلالة على ما يأتي، وبمعنى الإنشاء واستحداث الفعل على الطلب، فصيغة المضارع تدل على الحال والاستقبال، وصيغة المضارع مسبوقة بالسين تدل على المستقبل القريب، ومسبوقة ﺑ «سوف» تدل على المستقبل البعيد.